عمر .. طفل في الثمانين

بقلم بسمة أباظة

كررررررررررررريم…..

استيقظت فزعاً على صوت أمي تصرخ بجواري، كنت نائماً على الارض ممسكاً بوسادة ، كان صراخها يملأ الكون وقفت في أحد أركان الغرفة خائفاً حينما آتى أبي، لتنظر إليه أمي و دموعها تنساب لتغرقها و تغرق رأس أخي التي تحتضنها:
– عمر قتل كريم، عمر قتل كريم يا أحمد،  ولادك قتلوا بعض…..
ماذا؟!!!  أنا قتلت أخي؟!!!  كيف؟!!! كيف وصلت أصلاً إلى هنا؟ و ما الذي يجعل أمي تتهمني هكذا؟ ما الذي سيفعلونه بي الآن؟ هل سيقتلني أبي مثله؟ كنت أنظر خائفاً نحو أمي و رأس أخي المتدلي على ذراعها بلا حركة و تلك الأسئلة تعصف بي…

وقفت صامتاً مذعوراً لا أعلم ما علي فعله،  نظر أبي نحوها مشدوها :

– كريم مات، يعني ايه أوعي كده خليني اوديه المستشفى…
– مستشفى ايه بقولك مات مات،  عمر قتله….
– ما قتلتوش يا ماما ما عملتش حاجة….
– أخرس خالص أنا شايفاك بتحط المخدة على رأس أخوك….
صمت، أخذ أبي أخي بين ذراعيه و ركض به نحو المشفى تتبعه أمي كلاهما بملابس المنزل، كانت تلك هي المرة الأخيرة التي أرى فيها وجه أخي كريم، كان فارق العمر بيننا عام واحد، لذا كنا دائمي الشجار سوياً،  تلك الليلة شهدت أخر شجار بيننا حينما كسر كريم سيارتي اللعبة التي أحضرها لي أبي بعد عودته من السفر، و لكن كعادة أبي عنفني قائلاً :
– ده أخوك الصغير،  عيب عليك….
دخلت بعدها غرفتنا نلعب سوياً،  خرج كريم لدقائق و عاد ممسكاً بهاتف ابي النقال و جاء راكضاً فسقط منه أرضاً و تحطم، أتى أبي على صوت الأرتطام و حينما شاهد الهاتف في الأرض، نظر نحوي ثم أنهال علي ضرباً، أخذت أتوسل إليه أن يتركني و أخبره أني بريء و لم أفعل شيء لكن أذناه صمت و قلبه تحجر ألقى بي بعدها في الشرفة و أغلقها من الداخل و تركني داخلها في البرد…..
بكت أمي كثيراً و سألته:
– ليه كده؟ حرام عليك ده أبنك…..
– لا مش أبني،  أنتي فاكراني مصدق أنه أبني فعلاً، في عيل يتولد قبل سبع شهور…
– ما الدكتور قالك ساعتها انه مولود قبل أوانه،  و أنها معجزة أنه عاش….
-يا ريته مات…..
– حرام عليك أنت بتظلمني و بتظلمه، خلاص أعمل تحليل Dna و أتأكد و أرحمنا…..
– أنا فعلاً عملت التحليل و مستني النتيجة….
– خلاص يبقي أرحمني و أرحمه….
تركها و ذهب،  نظرت هي نحوي و و الدموع تغرق عينيها،  و نظرات القهر تغلبها….
كان هذا أخر ما أتذكره قبل أستيقاظي على صوت أمي،  كيف و متى نمت؟! كيف وصلت لهنا؟! و كيف أمسك وسادة كريم بيدي؟!!كريم دوماً المفضل كان لدى أبي، كنت دوماً  أظن أنه الشبه الكبير بينه و بين جدي خاصة بعد وفاته قبل خمسة أعوام لكن في ذلك اليوم علمت السبب الحقيقي ، عرفت لما كان كريم دوماً الأقرب لقلبه ، لما كل طلباته تجاب على الفور،  حتى إذا كان مخطيء يبرء أبي ساحته على الفور و يجعلنا نحن المخطئين أنا و أمي حتى شقيقتي الصغيرة التي لم تتعدى من العمر العامين كان أبي ينهرها إذا أخذت لعبة من يد كريم…
جلست في ركن الغرفة المظلم أبكي وحدي خائفاً مذعوراً فكرت في الهرب من المنزل خوفاً من عقاب أبي و أمي، كنت متأكداً أن أبي سيقتلني، بالفعل توجهت لغرفتي وضعت بعض ألعابي في حقيبة المدرسة و بعض الملابس و ركضت نحو باب المنزل لكن صوت أختي تبكي منادية أمي أستوقفني،  لم أستطع تركها وحدها في المنزل دخلت و حملتها محاولاً تهدئتها و أعادتها للنوم ثانيةً لكن بلا جدوى، أعطيتها بعض الماء و ظللت اهدهدها حتى غلبنا النوم سوياً و أنا محتضناً أياها…
لأستيقظ على يد أبي تمسكني بعنف ليلقي بي أرضاً…
– أبعد عنها هتقتلها هي كمان….
– يا بابا والله ما عملت حاجة،  أنا ما قتلتش كريم….
– أمال أيه دخلك أوضته؟ و كنت ماسك المخده بتعمل بيها أيه؟ قتلت أخوك يا عمر!!!  أخوك… أنت ما عادش ينفع تعيش معانا…
أمسكني أبي بعنف و جرني خلفه و أنا أبكي و أصرخ و أترجاه ألا يقتلني،  ألقى بي في السيارة و قادها بسرعة كبيرة حتى وصلنا إلى أحد أقسام الشرطة،  كانت تلك هي المرة الأولى لي التى أرى فيها قسم الشرطة بل أول مرة أرى ضابط عن قرب،  كنت قد أرتحت قليلاً لقد تأكدت الآن أن أبي لن يقتلني،  لكن لما جلبني إلى هنا؟! و جاءت الإجابة سريعة لتلطمني…
– أنا جاي أبلغ عن جريمة قتل…
– قتل مين حضرتك أستريح بس و فهمنا…
– أبني أتقتل…
– حضرتك شاكك في حد معين…
– أنا مش شاكك أنا عارف،  هو ده اللي قتله…
– تقصد مين حضرتك؟
أمسكني أبي بعنف و دفعني نحو مكتب الضابط:
– ده….
– بس ده طفل!!
– بقولك هو اللي قتل كريم أبني….
ثم صفعني صفعة واحدة أفقدتني الوعي،  أفقت بعدها لأجد ذلك الضابط بجواري،  نظرت نحوه و أنا أبكي :
– و الله يا عمو الظابط أنا ما قتلتوش، أنا ما عملتش حاجة…
– طيب بس اهدى يا حبيبي ما تخافش…
– هو فين بابا يا عمو؟
– بابا مشي يا حبيبي أنت هتقعد معايا شوية ما تخافش خالص، أحكيلي بس أيه اللي حصل…
رويت له كل ما حدث، نظر نحوي ثم ربت على ظهري بحنان،  و كانت تلك هي أخر مرة أشعر فيها بالحنان لمدة ثلاثة أعوام…
بعد ذلك بسويعات قليلة قدم رجل و أخذني لأحدى دور الرعاية، حيث حكم بعدها علي بالسجن خمسة أعوام…
لم أرى أبي أو أمي،  لم يقوما بزيارتي قط، لكن جدتي لأمي كانت تزورني باستمرار لتأتيني بالطعام و الملابس و تترك لي بعض الاموال في الخزانة لأتمكن من شراء أشياء بها، لكن نظراتها و عيناها كنت دوماً أرى اللوم و الكره فيهما، لم تصدقني أو يصدقني أحد، كانت شهادة أمي أنها رأتني أخنق كريم قاضية،  لكني كنت افتقدها و افتقد كريم و أختي و حتى أبي، كنت دوماً أحلم أننا سوياً و أنني ألعب مع أخي و أختي لكني أستيقظ ليصدمني الواقع بصفعة تخبرني أني لا أستحق حتى الحلم…

كدت يوماً أن أصدق،  أن أصدق أني قتلت أخي أني ذلك الوحش الذي يصفونه، تحولت عندها لوحش حقيقي عنيف مع كل الأطفال الأخرين في الدار، لكن بعدها آتى كريم في الحلم كان غاضباً مني،  رفض اللعب معي أو حتى أن يكلمني،  تركني و ذهب لأحد الأطفال في الدار كنت قد تعاركت معه يومها و ضربته، جلس معه يلعبان، علمعلمت عندها ما كان يغضب كريم فعدت لنفسي عدت عمر أخيه ثانيةً فعاد ليلعب معي في الأحلام…

اليوم مرت ثلاثة أعوام على تواجدي في الدار،  أصبح لي أصدقاء و شبه حياة…

– عمر،  تعالى عندك زيارة…

– مين؟

– تعالى بس و أنت تعرف…

دخلت مكتب مديرة الدار لأجد أبي جالساً نظر ألي، و ركض نحوي ليحتضنني و يمطرني بقبلاته…

– عمر حبيبي وحشتني، سامحني يا أبني سامحني يا حبيبي…

نظرت نحوه متعجباً وتراجعت للخلف و سألته بثبات:

– فيه أيه؟  أنت جيت ليه؟

– أنا عارف أنك زعلان مني، عندك حق أنا ظلمتك كتير ظلمتك لما ما صدقتكش و ظلمتك لما فرقت بينك و بين أخوك….

– يعني دلوقتي صدقتني؟

– أه يا حبيبي أنا دلوقتي عرفت أنك بريء و جاي أرجعك معايا البيت…

– عرفت أزاي؟

– نتكلم بعدين يا حبيبي نروح و نتكلم…

– بقولك عرفت أزاي؟

طأطأ أبي رأسه، و أغرورقت عيناه بالدموع:

– أمك يا عمر،  أمك قتلت أسيل أختك بنفس الطريقة اللي قتلت بيها كريم، و الدكاترة قالوا أن عندها “أنفصام” هو اللي خلاها تعمل كده و….

بدأ أبي يبكي و بدأت دموعي تنهمر من عيني رغماً عني…

– أسيل ماتت يا بابا…

– أه يا حبيبي،  ما بقاش فاضلي غيرك، سامحني يا أبني سامحني على كل يوم ظلمتك فيه…

– و ماما فين دلوقتي أنا عايز أشوفها…

نظر أبي نحوي متعجباً :

– بقولك هي اللي قتلت كريم و قتلت أسيل و هي اللي حطتك هنا…

– أنت قولت أنها عيانة يعني مش بمزاجها، أنا مش هظلمها زي ما أنا اتظلمت، أنت كمان لو عايزني تاني ما تظلمهاش و خليك جنبها…

نظر أبي نحوي و عيناه تملأهما الدموع:

– أنت أزاي كبرت كده…

– الظلم بيعلم يا بابا…

خرجت من الدار مع أبي لأتنشق نسيم الحياة ثانية لأشعر بدفء الشمس ليست شمس السماء و لكنها شمس قلب أبي التي و للمرة الأولى في حياتي أشعر بدفء حنانها، توجهنا سوياً لمنزل جدتي حيث أخبرني أنه يعرض منزلنا للبيع فهو يرى طيفي أسيل و كريم فيه في كل مكان…

طلبت منه مجدداً أن يرتب لي زيارةً لأمي كم كنت أفتقدها، بعد عشرة أيام كنا متوجهين لزيارتها بالفعل…

ما أن دخلنا الغرفة حتى ركضت أمي تجاهي و حضنتني و قبلتني ثم نظرت في وجهي لثانيتن، و تغيرت كل ملامح الحب بها لتدفعني بعيداً ثانية و تجلس في ركن في الغرفة….

كان الطبيب معنا في نفس الغرفة:

– مالك يا مدام؟  ده عمر أبنك مش وحشك؟

نظرت نحوي و دموعها تحفر في وجنتيها طريقا ليصنعا نهرين من الدموع لن ينضبا أبداً…..

نظر أبي نحوها و قال:

– عمر أصر يجيي يشوفك….

– عايز أيه بعد ما قتلت أخوك و خليتني اقتل أختك عايز مني أيه تاني؟!

– عمر ما قتلش حد أنتي اللي قتلتي كريم زي ما قتلتي أسيل حرام عليكي بقى….

قال الطبيب:

– أستاذ أحمد أهدى مش هينفع كده، ممكن نقعد بعيد شوية نتكلم عايز شوية معلومات من حضرتك….

– هنسيبها مع عمر لوحدهم….

– لا في ممرضة هتقعد معاهم ما تقلقش….

خرج أبي و جاءت تلك الممرضة و جلست في ركن بعيد تراقب أمي، نظرت أليها ثم توجهت نحو أمي و جلست بجوارها، و قبلت يدها و أحتضنتها، نظرت نحوي فجأة:

– عمر وحشتني…

– ماما كنت خايف ما اشوفكيش و تفضل مامت عمر بس، وحشتيني أوي…

– أنت أكتر يا حبيبي، أنتقمتلك منه و قتلت بنته…

– أنا بكرهه،  ظلم عمر كتير و قهره و ظلم أمه مش هنسى أبداً اليوم ده، لما مامت عمر أتخانقت معاه بعد ما ضربه و حبسه في البلكونة في عز البرد و أتهمه أنه كسر موبايله رغم أن الموبايل كان في ايد كريم فاكرة يا ماما اليوم ده؟ ساعتها قررت أنتقم منه و أقتل أبنه و اقهره وأحرمه من اللي بيحبه زي ما ظلمني، أيوه أنا اللي قتلت كريم…

همست في أذنها :

– أنا عايز أشكرك يا ماما أنك خلصتيني من أسيل، و رجعتيلي بابا تاني….

نظرت نحوي و أتسعت عيناها، دفعتني أمي لأقع أرضاً و هجمت علي محاولة خنقي و هي تصرخ:

– أنت مش أبني أنت وحش،  لازم تموت، تعالى يا أحمد أعترفلي أنه هو اللي قتل كريم…

أتت الممرضة راكضة و أمسكتها و قيدتها و آتى الطبيب و أعطاها حقنة مهدئة…

خرجنا من عند أمي ذلك اليوم لتكون تلك هي زيارتي الوحيدة لها……


بقلم بسمه اباظه

مبادرة الكاتبة مروة الصعيدي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى