الطيف المنتظر
فدوى عامر
انتظرت كعادتها الطيف كل صباح على كرسيها حتى يتم اقتيادها إلى موضعها بالقرب من الشرفة.. ذلك المكان الذي لم تفارقه ولم تبرحه منذ أكثر من عشرة أعوام سوى من أجل العودة إلى غرفتها، أو بالأحرى فراشها.
كانت هذه هي وتيرة حياتها اليومية منذ أن أقعدها المرض، وأثقلت كاهلها سنوات عمرها الثمانون، تترك فراشها لتنتقل من غرفتها إلى غرفة الجلوس عبر طريق رتيب يُفضي إلى ركنٍ منزوٍ بجوار الشرفة ترقب منه الحياة عبر النافذة. تستيقظ كل صباح فتساعدها جليستها في غسل وجهها وتمشيط شعرها ثم تذهب لإعداد الفطور وتعود لتقودها على كرسيها ذي العجل إلى غرفة الجلوس.
تأتيها بشاي الصباح وبعض البسكويت الخفيف في طبق صغير، تلك الوجبة الصباحية التي اعتادتها حتى فقدت القدرة على استطعامها.. تماما كما فقدت قدرتها على تذوق الفرح، والحزن، والحياة.. فمذاق العقاقير الصباحية والمسائية صار يغلف كل شيء. لا تظن أن هناك عقار لعلاج أي مرض لا تتناوله بالفعل.. ينقصها فقط عقار تداوي به شقاء السنين، وتعب العمر، وآلام القلب، وعذابات الروح. ينقصها عقار يعيد إليها شغفها بالاستيقاظ كل يوم، وانتظار شمس النهار، عوضًا عن ترقب الليل، والاستكانة إلى سكونه وظلامه..
اليوم هو موعد زيارة ابنتها الصغرى، أو هكذا أخبرتها الجليسة وهي تضع أمامها صينية الإفطار. صبت لها بعض الماء في الكوب وهي تعطيها ذاك الحُق الصغير الملآن بالأقراص متعددة الألوان والتي تجرعتها دفعة واحدة مع القليل من الماء. شعرت بتلك الغصة المعتادة ولكنها كابدتها واستسلمت للنظر من الشرفة عبر زجاج النافذة لترقب حركة المارة والسيارات. لم يكن اليوم مثل كل الأيام.. ربما فقدت القدرة على تمييز الأيام وإدراك الأمور والأشياء، ولكنها لم تفقد بعد قدرتها على الإحساس، على عكس ما توحي به نظرة عينيها الزائغة، التي استعادت براءة الطفولة المفتقدة. عجبا لما يفعله الزمن بنا؛ إذ يردنا صغارًا من جديد، لا نملك من أمرنا شيئًا. نعود كالأطفال نسأل عن أي شيء وكل شيء، دون أن نعيه حقا.. فتبهرنا أقل الأمور أهمية، وأقلها أيضا يُبكينا.. دون أن يفهم من يحيطون بنا سببًا لتغير أحوالنا. نعم، نعود كالأطفال رغم ما تركته بصمات الزمن من آثارٍ على ملامحنا وأجسادنا.. فنترك للآخرين طواعية مهمة قيادة مقدراتنا.. نتركهم يكبلوننا بأغلال الحاضر وسياط المنع والمنح.. دون أن نتدخل، فلا يسمحون لنا سوى بالعيش في ذكريات ماضٍ ولى، نحياها على استحياء عبر صورٍ وخطابات قديمة.. لا ننفك عن النظر إليها رغم ما أصاب أبصارنا من وهن..
ولكن اليوم ليس كمثل باقي الأيام.. يراودها إحساس قوي بحضوره.. تعرف أنه هنا.. في الجوار. تشم رائحته وتشعر بأجنحته تلوح في الأفق. تراه في وجوم وجه جليستها واقتضاب حديثها.. تلمحه في وجه ابنتها التي دخلت عليها للتو.. كادت تلمسه على ثيابها.. رأته في عينيها الذابلتين المسهدتين، وفي أركان شفتيها المزمومتين لتقبيلها.. نعم إنه هنا. شعرت به في الصباح الباكر وهو يقتطع جزءً جديدًا منها.. لا تدري أي جزءٍ قد أخذ.. ولكنها تشعر بألم البتر. تعلم تمام العلم أنهم ينكرون حضوره خوفًا عليها.. وشفقةً بها وبوهنها.. فيما هي لو يعلمون أكثر إشفاقًا بهم.. حتى أنها تتركهم في كل مرة يحتالون عليها ويتصورون أنهم قادرون على حمايتها منه ومن اقترابه.. من سطوة حضوره المهيب.. ومن ألم رحيله بعدما اصطحب من اصطحب. تدعهم يتخيلون أنهم قد خدعوها، حتى لا تضيف قلقًا جديدًا إلى حياتهم.. حتى لا تربكهم بحالها.. حتى ينعمون بلذة انطلاء الحيلة، ويركنون إلى نجاحهم في إخفاء الأمر عليها، والاطمئنان إلى استقرار الأوضاع. ولكنهم لا يعلمون أن من هم مثلها ينتظرونه.. يتلهفون مجيئه.. بل ويتوقون إليه ليلحقوا بمن سبقوهم..
لا تدري لماذا يخطؤها في كل مرة.. فهي مستعدة. أنهت مهمتها وصارت لا تنتظر شيئا من الحياة.. صارت تتمناه وتنتقل إليه جزءا جزءا مع كل رحيلٍ لعزيز غالي.. أو قريب محب.. أو صديق لطالما ائتنست به. لقد سبقتها روحها إلى حيث اصطحب الجميع بالفعل.. ولم يبق منها سوى هذا الجسد القابع على هذا الكرسي الأصم. كم تود لو استطاعت الرحيل هي لملاقاته.. كم من مرة مدت ذراعيها ليلا لتلمسه وتتشبث به حين شعرت باقترابه.. ولكنه دائما ما يفلت من بين أصابعها المرتعشة.. يفلت منها ليلاحق من جاء إليه طبقًا للأمر الصادر.. والذي لا يملك رغم سلطانه سوى الانصياع له، تمامًا كما تمتثل هي له وهي في مجلسها هذا، تهيم بنظراتها بين مجالسيها دون أن تنخرط في الحديث ولو بتعليقات أو إيماءات برأسها كعادتها.. كان هناك سؤال لا ينفك يتردد بداخلها: يا تُرى يا موتُ من أخذت هذه المرة؟
تمت